تواجه أسواق العملات الرقمية تحديات عميقة وخفية، رغم النمو السريع الذي أحرزته، وعلى الرغم من التوسع في السيولة الظاهرية، يبقى الواقع مختلفاً فالأسواق تظهر قدرة على التعامل مع الأزمات، لكنها غير متينة بما يكفي ولذلك، تبرز هشاشة تُخفيها البيانات الأولية.
نمو السوق يخفي الواقع الهش
تبلغ قيمة السوق العالمية للعملات الرقمية نحو 2.49 تريليون دولار في عام 2024 ومن المتوقع أن تتجاوز 5.73 تريليون دولار بحلول عام 2033، بمعدل نمو سنوي مركب يتجاوز 9.7٪ . إلا أن هذه الأرقام الكبيرة لا تعكس عمق السوق الحقيقي بل توجد فجوة هيكلية بين السيولة الظاهرية والحقيقية وبالتالي، فإن أي تحول مفاجئ في معنويات المتعاملين يمكن أن ينهار السوق بسرعة
السيولة في الأسواق التقليدية
تُعدّ سوق الفوركس والسندات من أكثر الأسواق سيولة إلا أن هذا الإحساس بسيولة عالية أصبح مجرد وهم فحتى أزواج العملات الرئيسية مثل اليورو/دولار تعاني من انزلاقات سعرية عند التقلبات وقد تردد الحديث عن ما يسمى بـ”مخاطر المخزن”، إذ لا يرغب المصرفيون أو صناع السوق في الاحتفاظ بأصول شديدة التقلب أثناء تراجع السوق وبعد الأزمة المالية عام 2008، ابتعدت البنوك الكبرى عن تزويد السوق بالسيولة كما تحوّلت هذه المخاطر إلى صناديق الاستثمار السلبي، والصناديق المتداولة، وأنظمة التداول الآلي.
صناديق الاستثمار السلبي
شهدت نسبة ممتلكات صناديق الأسهم المتداولة في MSCI World ارتفاعاً من 4٪ عام 2007 إلى نحو 12٪ عام 2018، و25٪ في بعض الأسهم ومع ذلك، فإن الأصول التي تحملها هذه الصناديق قد لا تتسم بالسيولة نفسها ومن ثم عندما يتراجع السوق، تُباع الصناديق أولاً، بينما الأصول التي تحتويها تظلّ مقيدة وهذا ما يعيد تقديم مفهوم “سيولة ظاهرية” لا يمكن الاعتماد عليها في أوقات الأزمات وحين يتهرّب صناع السوق، تتسع هوامش الأسعار، ويرتفع الانزلاق السعري
السيولة الرقمية
يتكرر السلوك نفسه في سوق العملات الرقمية فعلى الورق، تظهر بيانات مثل أحجام التداول والفروقات الضيقة سيولة مريحة لكن عندما تتغير روح السوق، فتصبح هذه البيانات من النوع الزائف، وقد لوحظ هذا بوضوح في انهيار عملة OM ضمن مشروع Mantra عام 2022، حيث تلاشت عميق الفروقات فجأة، وانهارت الأسعار. كما تأثرت العملات الكبيرة بتقلبات واضحة حتى على المنصات الرائدة
بنية السوق الرقمية مئات المنصات، وسوق مشتت
تكمن المشكلة في بناء سوق العملات الرقمية. فهي تعتمد على مئات المنصات، كل منها يمتلك دفتر أوامر منفصل وهكذا يصبح السعر غير موحّد وتختلف السيولة. وفي ظل توفر عدد محدود من صناع السوق، يصبح الاعتماد عليهم محفوفاً بالخطر وبالتالي، يبدو الأمر كما لو أن السيولة حقيقية، لكنها ليست كذلك في الواقع
المعاملات الوهمية وتضليل الجمهور
تُمارس بعض الأساليب بأهداف تسويقية أو خداعية. فأحياناً يكون التداول وهمياً عبر محاكاة نشاط السوق (spooring, wash trading). وتظهر بيانات حجم مرتفعة لا تعكس سوى السوق الفارغ من المعنى . وهكذا، يشعر المستثمر العادي بالثقة، في ظل سوق لا يستحق هذه الثقة. وعندما يتراجع التذبذب وترسل إشارات الخطر، يهرب المشاركون بسرعة. فترتفع هوامش الأسعار مجدداً، بينما تحل الفوضى قيمتها السوقية
بناء حلول تتخطى التشتت
لحل هذه الأزمة الجوهرية، ثمة طرق تقنية مطروحة. أولى الخطوات هي دمج السيولة في الطبقة الأساسية للبروتوكولات. أي تفعيل وظيفتي الربط بين الشبكات والتوجيه ضمن العقد نفسها، وهذا ما تعتمده الآن بعض بروتوكولات الطبقة الأولى. والهدف هو تقليل التشتت، وخلق مسارات سيولة موحدة ومترابطة . والملاحظ أن التكنولوجيا البنية قد تطورت كثيراً، وأصبح زمن التنفيذ يصل إلى 10‑20 ملّي ثانية. وهذا يسمح لمنصات الـ cloud مثل أمازون وغوغل بدعم الرسائل اللحظية بين الأنظمة. كما أن نحو 70‑90٪ من حجم تداول العملات المستقرة يتم حالياً عبر روبوتات وبرامج آلية .
الروابط والتنظيم
تكنولوجيا السيولة وحدها لا تكفي. فثمة حاجة لتكامل ذكيّ بين البروتوكولات. يتطلّب هذا ربط طبقتي التنفيذ والبروتوكول بسلاسة. وذلك حتى تُدار السيولة عبر مختلف الشبكات والمزودين الأوتوماتيكين. وبدون هذا التكامل، ستبقى الفجوات قائمة. وعليه، يجب على المؤسسات ومطوّري الأنظمة تشغيل اختبارات ضغط دورية.وكذلك تعزيز الشفافية حول المواقع الحقيقية للسيولة، ومن يتحكم فيها.
الدعوة إلى الحوكمة الرقمية
يُظهر السوق اليوم أن السيولة الرقمية ليست مجرد توافر عدد من العملات. بل هي إطار عمل متكامل، يشمل بنية تحتية قوية، وتنظيماً فعالاً. ومن دون هذه المقومات، يظل السوق هشّاً ومستعداً للانفجار في أي لحظة. لذلك، فإن الوقت حان لتوحيد السيولة، وتعزيز الرقابة الفنية والشرعية عليها. وإلا سنعود دوماً إلى اللحظات القاتمة من انهيار الأصول، والخسائر الكبيرة، وانهيار الثقة.
