في خطوة رسمية، أعلنت تيليجرام إغلاق سوق “هويون غارانتي” أكبر سوق احتيال للعملات المشفرة في تاريخ المنصات الرقمية. شددت المنصة على أن القرار جاء تطبيقاً لشروط الخدمة الدولية لمكافحة غسل الأموال والاحتيال المالي. ومع ذلك، سرعان ما سيطرت أسواق أخرى منافِسة على النشاط الإجرامي عبر الإنترنت. وقد سجّلت زيادة بحجم النشاط وصل إلى 400٪ خلال أسابيع قليلة .
إغلاق رسمي لسوق الاحتيال العالمي
في 13 مايو 2025، أقدمت تيليجرام على مسح آلاف القنوات والحسابات المرتبطة بسوق “هويون غارانتي”. وكانت الشركة تحظى بسمعة كأكبر سوق في العالم، حيث تجاوزت تعاملاتها 27 مليار دولار أمريكي عبر عملة Tether المستقرة . وقد أكّد أخصائيو Elliptic أن القرار جاء بعد تحقيقات تبين تورط هذه القنوات في غسل الأموال وبيع بيانات مسروقة وخدمات احتيالية بما يصنفه خبراء عالميون كمنصّة “للجرائم الإلكترونية المنظمة” .
السوق الأسود يتفكّك ثم يُعاد بناؤه
رغم النجاح الظاهر للإجراء، نشر تقرير Elliptic في أواخر يونيو 2025 أن بقايا السوق الأصلي لم تختفِ تماماً، بل أعادت تنظيم نفسها. ظهرت أسواق منافِسة مثل “تودو غارانتي” و”شوانغيينغ” و”فولي لايت”، مستفيدة من القدرة التنظيمية المرتبطة بـهويون غارانتي سابقاً . مثلاً، ارتفع عدد معاملات “تودو غارانتي” اليومية بسرعة من الصفر تقريباً إلى ما يزيد عن 300 ألف معاملة بحلول 15 يونيو. كما ازداد عدد مستخدمي “شوانغيينغ” ثلاث مرات تقريباً من 40 ألفاً إلى 110 آلاف، بينما ارتفعت معاملات “فولي لايت” من 20 ألف معاملة إلى أكثر من 80 ألفاً خلال نفس الفترة. هذه المعطيات تشير بوضوح إلى أن إغلاق تيليجرام كان ضربة محدودة، وأن النشاط الأسود تولّد من جديد عبر هيئات أكثر تنويعاً وأكثر مقاومة للإغلاق.
أسواق الاحتيال التقنية وتعقيدات التنظيم
تعتمد هذه المنصات على هيكلية إجرامية معقدة. حيث تستخدم تقنية “ضمان الحماية” escrow ضمن القنوات المغلقة، لتعقيد أثر المعاملات. كما تستمر في استخدام عملة USDT التي توفر استقراراً نقدياً يفضله المجرمون على الأنظمة المصرفية التقليدية . كما ارتبط نشاطها بعمليات غسل أموال واسعة، تشمل خدمات بنوك مظللة وشبكات احتيالية عبر جنوب شرق آسيا. ولم تنحصر المهمة في غسل الأموال فقط، بل امتدت لتشمل الاحتيال عبر “pig butchering” والتجارة بالبيانات المسروقة وحتى خدمات استغلال وتمويل شبكات الاتجار بالبشر .
مشاركة الحكومات والهيئات الدولية
قامت وزارة الخزانة الأمريكية عبر FinCEN بوضع شركة Huione Group، الشركة الأم لهذه المنصات، على قائمة المؤسسات المالية المشتبه في غسل الأموال، وهو ما مكّن السلطات من الحد من وصولها للنظام المالي الأمريكي . كما ذكرت تقارير من Wired أن جزءاً من هذه البنية الإجرامية تديرها جهات مرتبطة بالنخبة السياسية في كمبوديا. بما في ذلك مشاركة قريب من رئيس الوزراء في إدارة بعض الشركات المستفادة من عمليات غسل الأموال . لكن رغم المشاركة الحكومية، فإن قدرة المنظّمات الدولية على توفير تعاون فعلي ما تزال ضئيلة، بالنظر إلى الطبيعة العابرة للحدود وطبيعة الخدمات التي تتداخل بين الجرائم البشرية والمالية.
تحديات التنظيم والضبط المستمر
تستمر تيليجرام في موقفها الرسمي، مؤكدة أنها تتدخل حالياً في القنوات المعروفة فقط، وأنها ترفض فرض حظر شامل على الأنشطة المالية تحت غطاء الخصوصية والحرية المالية. وربطت قرارها بتعقيد الأوضاع في الدول ذات الضوابط النقدية الشديدة مثل الصين . من جانب آخر، شدّد خبراء في Elliptic مثل Tom Robinson أن الأثر الفعلي لإغلاق قناة واحدة يقتصر على تعطيل واجهات ظاهرة لاختصار إطار المال. بينما تبقى الأنظمة الأساسية والأنفاق المالية في مكانها وتعيد ترجمتها لاستخدام منصات جديدة .كما رأى آخرون، مثل Erin West مديرة Operation Shamrock، أن تيليجرام توفر بيئة تسمح بازدهار النشاط الإجرامي رغم الحملات المنقطعة، محذرين: “إنها تسمح بفرصة جديدة لمن يختبئون تحت غطاء المصطلحات المالية والتجارية” .
الحاجة لضغط قانوني وتشريعي
إن الطبيعة العابرة لهذه المنصات تجعل الحل بحاجة إلى تدخل متعدد الجنسيات. من جهات إنفاذ القانون العالمية، وخطط تشريعات تحظر أشكال متخصصة لغسل الأموال عبر العملات المشفرة، واتفاقيات مع شركات تقنية مثل تيليجرام وتيثر . وقد أكّد محللو Chainalysis أن استهداف البنى التحتية المستقرة التي تدعم هذه النشاطات سيكون أكثر فعالية من استهداف واجهات الواجهة فقط. لذلك، فإن التشريعات المالية الحديثة والملاحقات القضائية والتعاون الوسطي سيكون مفتاح المرحلة المقبلة.
حلبة القط والفأر تتجدد
رغم الإجراءات الرسمية ضد أكبر سوق احتيال في التاريخ، فإن الجريمة الرقمية أظهرت مرونة مفرطة في مواجهة الهجمات التنظيمية. فالأسواق الجديدة أسهمت في مواصلة النشاط الإجرامي وتكثيفه بقوة خلال أسابيع قليلة.
من هنا، فإن قتل سوق واحد لا يكفي، ولا يمكن لحظر قناة أو اثنتين أن يردع منظومات متكاملة تدير غسل الأموال والإحتيال والاتجار بالبشر. بل إن لحظة الإغلاق قد تكون مجرد بداية لموجة جديدة، أكثر شراسة وتخفياً.